الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله في اليوم الأغر –يوم عيد الفطر- يكرم عباده الصائمين القائمين، الممتثلين لأوامره المجتنبين لنواهيه بمكارم عديدة، ويمنحهم الجوائز الكثيرة، فقد جاء في الأثر أن يوم عيد الفطر يسمى يوم الجوائز، وذلك لأن الجوائز تفرق في ذلك اليوم على العاملين في شهر رمضان كل بحسب عمله، فمن عمل خيرًا وجد خيراً، ومن عمل شرًا وجد مثله، إلا أن يعفو الله عنه.
إن رمضان مزرعة للآخرة، فما زرعت حصدت، ومن زرع الشوك لن يحصد العنب؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
وأهم هذه الجوائز وأغلاها ثمناً، وأعلاها قدراً: مغفرة الذنوب، والفوز برضوان علام الغيوب، فقد في الحديث بيان تلك الجائزة –وإن كان الحديث ضعيفاً لكن له شواهد، ومعناه صحيح- فعن سعد بن أوس الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق، فنادوا: اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم، يمنّ بالخير، ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة)1.
وتلك الجائزة لا يمكن الفوز بها إلا بشروط، ومن تلك الشروط ما روي في الأثر المرسل عن أبي جعفر الباقر قال: "من أتى عليه رمضان فصام نهاره، وصلَّى وِرداً من ليله، وغض بصره، وحفظ فرجه، ولسانه، ويده، وحافظ على صلاته في الجماعة، وبكر إلى الجمعة فقد صام الشهر، واستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر، وفاز بجائزة الرب"..
وجائزة الرب -تبارك وتعالى- جائز تليق بمقامه وعظمته، فليست كجوائز الملوك أو الرؤساء؛ ذلك أن جائزة كل إنسان بحسب إمكانياته ومنزلته، والله تعالى مالك الملك كله، فجائزته عظيمة، وإحسانه كبير، كما يقول أبو جعفر: "جائزة لا تشبه جوائز الأمراء، إذا أكمل الصائمون صيام رمضان وقيامه فقد وفوا ما عليهم من العمل، وبقي ما لهم من الأجر وهو المغفرة، فإذا خرجوا يوم عيد الفطر إلى الصلاة قسمت عليهم أجورهم، فرجعوا إلى منازلهم وقد استوفوا الأجر واستكملوه".
ومن نقص من العمل الذي عليه نقص من الأجر بحسب نقصه فلا يلوم إلا نفسه، قال سلمان: "الصلاة مكيال فمن وفى وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين. فالصيام وسائر الأعمال على هذا المنوال، من وفاها فهو من خيار عباد الله الموفين، ومن طفف فيها فويل للمطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته، ويطفف في مكيال صيامه وصلاته إلا بعد المدين في الحديث: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته)2. إذا كان الويل لمن طفف مكيال الدنيا فكيف حال من طفف مكيال الدين: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}3.
غدا توفى النفوس ما كسبت ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساؤا فبئس ما صنعوا
إخواني: لقد كان سلفنا الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، روي عن علي -رضي الله عنه- قال: "كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله -عز وجل- يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}4. وعن فضالة بن عبيد قال: "لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}5.
وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: "يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه". وعن ابن مسعود أنه كان يقول: "من هذا المقبول منا فنهنيه، ومن هذا المحروم منا فنعزيه"..
ليت شعري من فيه يقبل منا فيهنا يا خيبة المـردود
من تولى عنه بغير قبـول أرغم الله أنفه بخزي شديد6
نسأل الله أن يتقبل منا صلاتنا وصيامنا، وقيامنا، وصالح أعمالنا.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير.
1 الحديث كما يقول ابن رجب-رحمه الله- في لطائف المعارف: "خرجه سلمة بن شبيب في كتاب: "فضائل رمضان" وغيره، وفي إسناده مقال، وقد روي من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما موقوفاً بعضه". وقال النووي في: "شرح النووي على مسلم" (1/97): "وهذا الحديث رويناه في كتاب المستقصى في فضائل المسجد الأقصى تصنيف الحافظ أبى محمد بن عساكر الدمشقي -رحمه الله- ". والحديث ضعيف، كما قال الألباني في ضعيف الترغيب، رقم(670).
2 أخرجه أحمد في المسند، وابن خزيمه في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: "صحيح الإسناد"، وقال الألباني: "صحيح لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(524).
3 سورة الماعون(4-5).
4 سورة المؤمنون(60).
5 سورة المائدة(27).
6 انظر: لطائف المعارف، صـ(232). بتصرف.
المصدر: موقع إمام المسجد